صورة عن الوضع في العراق
أشار مركز الجنوب للدراسات والتخطيط الأستراتيجي في العراق أنه يقتل يوميا في العراق (400) شخص، وان اغلبهم يقتلون على خلفية اسباب طائفية وعلى أيدي مجهولة في أغلب الأحيان، وان أكثر الضحايا هم من المدنيين، وتضيف بأن أستهداف الضحايا يجري بشكل علني وضمن حصانة رسمية، وان الغرض منه هو الأبتزاز السياسي، والحقيقة أن هذا الرقم يتناسب مع البيانات التي نشرتها مجلة ذي لانسيت الطبية البريطانية والتي أشارت الى مقتل (650) الف عراقي منذ بداية الغزو عام 2003، كما ان وزير الصحة العراقي أعترف بان حوالي (150) الف مواطن عراقي قتلوا منذ الغزو وبلغ عدد الجرحى ثلاثة أضعاف هذا الرقم، وإذا قارنا هذا الرقم بضحايا الحروب الأهلية مثل في السودان قدر القتلى ما بين (180-300) الف، والحرب في البلقان (250) الف قتيل، والحرب الكولومبية (100) الف، وفي النيبال (12،500) قتيل سيظهر البون الشاسع حول القتلى في العراق وهذه الدول، مع الأخذ بنظر الأعتبار ان طول فترة الحرب الأهلية العراقية تكاد لا تقارن عن مثيلاتها في السودان أو لبنان .
تؤدي الحرب الأهلية الى نزوح كبير من مواطني الدولة الى دول الجوار وبقية دول العالم وقدر عدد المهاجرين من السودان بسبب الحرب الأهلية بحدود (2،5) مليون شخص، وترى المفوضية العليا لشؤون اللاجئين بأن عدد العراقيين الذين اجبروا على الرحيل منذ الغزو الأمريكي يعادل الذين هاجروا في عهد الرئيس السابق صدام حسين والمقدر (4) مليون عراقي، وتشير المفوضية بأن (1،5) عراقي تركوا مناطقهم بسبب الاحتقان الطائفي الى أماكن أخرى داخل البلاد و(1،600،000) مليون وستمائة ألف هاجروا الى دول أخرى عبر الأردن وسوريا، ويصل (40) ألف عراقي الى سوريا شهرياً والأمر نفسه في الأردن، وتشير مسؤولة بارزة في وزارة المهجرين والمهاجرين في بغداد بأن (80) ألف عراقي نزحوا عن مناطق سكناهم خلال شهرين ؟و يعني ان عدد المهاجرين العراقيين هم الأكبر في تأريخ الحروب الأهلية ؟
تؤدي الحروب الأهلية الى أوضاع مأساوية للنساء والأطفال،كما أشرنا ، وذكرت تقرير صادر عن وزارة التخطيط والتعاون الأنمائي في العراق بالتعاون مع بقرنامج الأمم المتحدة الأنمائي بأن 18% من اطفال العراق يعانون من سوء التغذية و23% يعانون من سوء تغذية مزمن، وقدرت عدد ايتام العراق (4-5) مليون طفل، وعدد المعوقين (900) الف، وعدد الأرامل (1،5) مليون ارملة، إضافة الى مئات الآلاف من المطلقات، وهن يقمن بأعالة (7) مليون طفل، كما تشير أحصائيات وزارة العمل والشؤون الأجتماعية ان نسبة الفقر بلغت في أغنى دولة في العالم 42% من إجمالي عدد السكان، وان هناك (2) مليون عائلة عراقية تعيش دون مستوى الفقر، وان عدد العاطلين عن العمل (4) مليون عاطل، كما ارتفعت نسبة الأمية التي كانت في عهد صدام حسين 0% باعتراف اليونسكو لتبلغ 42% من مجموع السكان، وان 20% من العوائل العراقية تحصل على ماء صالح للشرب في بلد الرافدين . كما بلغ عدد المتسربين من المدارس العراقية 55% من المجموع الكلي للطلاب، يضاف الى ذلك هجرة الكقاءات التي تجاوزت الآلاف كما تم أغتيال حوالي (300) استاذ جامعي وعالم عراقي . وهذه البيانات عكس حجم الكارثة في العراق وهي تمثل حالة نادرة في تأريخ الحروب الأهلية .
تشير الدراسات بأن الحروب الأهلية تنشأ في ظل ضعف الحكومات المركزية أو انحياز الحكومة الى أحد أطراف النزاع، والحكومة العراقية الحالية وسابقتها بقيادة الجعفري كما تشير البيانات بما فيها الأمريكية نفسها تعتبر من أضعف الحكومات التي مرت في تأريخ العراق المعاصر ، فقد فشلت العملية السياسية برمتها وتحول العراق من مصدر أشعاع للديمقراطية الى مصدر أشعاع للأرهاب وازعاج الآخرين، بل تحول الى وكالة دولية لتصدير واستيراد الأرهاب، كما فشلت مشاريع الأعمار وخطط المصالحة الوطنية، واثبت قوات الجيش و الشرطة انحيازهم الى احد اطراف النزاع، ولاشك أن قيام وزارة الداخلية العراقية بطرد اكثر من (7000) من قواتها بسبب اشتراكهم بفرق الموت هو اكبر دليل على ذلك ، كما أن فقدان (14) الف قطعة سلاح كانت مخصصة لأستخدام الجيش العراقي وتسربها الى الميليشيات المسلحة تظهر فساد هذه الجهات، وقد ذكر رئيس مجلس النواب العراقي بأن حل الميليشيات يعني حل وزارة الداخلية العراقية، وفي القائمة التي نشرتها منظمة الشفافية التي تتولى مراقبة الفساد تصدر العراق وهايتي ومينمار وغينيا قائمة الدول الأكثر فساداً في العالم، وأرجع المدير التنفيذي للمنظمة ديفيد نوسبوم السبب الى تفاقم العنف وفشل الدولة في كبح جماحه .
من المظاهر المصاحبة للحروب الأهلية تفشي الفساد الأداري في مفاصل الدولة ولاسيما بين الفئات والأحزاب الحاكمة وزعماء الحرب، وقد كشف مسؤول في هيئة النزاهة العراقية بأن الهيئة أصدرت مذكرة بأعتقال (88) مسؤول عراقي بينهم (10) وزير ووكيل وزارة بتهمة الفساد الأداري والمالي، كما طالبت الأنتربول بمساعدتها في القاء القبص على (61) مسؤول في خارج العراق، وتشير الهيئة بأن حجم الفساد المالي بلغ (7،7) مليار دولار، وبالطبع لم يشهد تأريخ الحروب الأهلية مثل هذا الفساد المالي ؟
لاشك ان الاختلافات في الرأي حالة صحية وان تعدد الآراء بشأن ما يحدث في العراق يرجع الى رؤى تعبر عن تصورات شخصية أو مصالح محددة أو بتأثيرات سياسية، فكما لاحظنا ان القوى الحاكمة في العراق والإدارة الأمريكية وبريطانيا وإيران ترفض ان تعتبر أن ما يحدث في العراق حرباً أهلية في حين ان القوى المناهزة للاحتلال ودول الجواريأستثناء إيران وغير الجوار العربية والمنظمات الدولية والإقليمية تعترف بوجود حرباً أهلية، وهذا بحد ذاته لا يشكل معنى للشعب العراقي باعتبار انه الذي يدفع ثمن هذه الحرب سواء اعترف بها الغير أو لم يعترف ، فهي تعبير عن إحدى أشكال العجز الوطني والعربي والإقليمي والدولي ينذر بكارثة اجتماعية وسياسية وثقافية واقتصادية وحضارية لم يشهد مثيلها العالم الحديث، لأنها كما أشار الرئيس الأمريكي بوش أعادت الحضارة ليس كما أدعى الى ما قبل الثورة الصناعية بل أنه أعادى الى عصور البربرية التي لم يشهدها العراق القديم مهد الحضارات، لقد أدت هذه المعارك الشرسة الى ضرر كبير على العراق أرضاً وشعباً وأدت الى استنزاف الدماء والطاقات بشكل عبثي وتدهور الاقتصاد بالفساد الإداري الذي استشرى في كافة المفاصل الحكومية بما فيها الهيئات المسؤولة عن مكافحة الفساد كهيئة النزاهة التي تبين أنها ابعد الهيئات عن النزاهة وهاجرت الكفاءات العلمية بعد أن قدمت المئات من العلماء وكبار الأساتذة قربانا على مذبح الديمقراطية التي بشربها الرئيس الأمريكي، واستشرى الاحتقان العاطفي ليتحول الى حرب عاصفة تدك مدن العراق ويدفع ثمنها أناس مدنيون قابعون في بيوتهم تنهال عليهم قنابل مجهولة الهوية، وتغير وزارات على وزارات شقيقة في وضوح النهار ويختطف موظفون أبرياء ليعثر عليهم بعد أيام قرب النفايات، ويتحول نهر دجلة من مشهد ساحر الهم الشعراء القدامى والمحدثين بمائه الصافي وخيره الوافد الى نهر حزين تلفظ مياه كل يوم على الجرف عدد من العراقيين مج هولي الهوية ويفترق الأزواج الذين بنوا علاقاتهم على الحب والوئام وطرزوا زواجهم بعدد من الأبناء الى مطلقين بسبب الاختلاف المذهبي رغم ان المذاهب جميعاً لا تختلف في رؤيتها بأن الزواج رابطة مقدسة وهي نصف الدين بل نصف الحياة، ويتصارع طفلان في المدرسة ليس بسبب المنافسة على الدراسة او اللعب ولكن لأن أحدهم أسمه عمر والآخر علي، وتسأل مدرسة مسؤولة عن تربية الجيل و أعداده حصناً وسوراً لمستقبل العراق طلابها عن مذهبهم بلا ورع أو خجل، ويحمل طلاب الجامعات السكاكين بدلاً من الأقلام وهم على مقاعد الدراسة لأن الوقت وقت حرب وليس علم، ويتزاحم الألوف من العراقيين أذلاء على المراكز الحدودية في الوليد وطريبيل مستجدين الموافقة على دخولهم بلدان عربية شقيقة كان ومازال العراق سبباً لنهضتها وتطورها وتتحول المستشفيات من مكان يلم ملائكة الرحمة لتقديم بلسم الشفاء للجرحى الى أوكار لفرق الموت لم تكتف بجراحهم وتسعى للإجهاز عليهم بلا رحمة، ويتحول رجال الدين من واعظين ومرشدين لهذه الأمة الى قوى محرضة على البغضاء والقتل وتشعل الفتنة كلما هدأت . وتتحول دول الجوار من أشقاء و أصدقاء في القومية والدين والعروبة الى تجار يصدرون بلا ويهم ومشاكلهم للعراق ويستوردون دماء العراق وخيراته . ويتحول النفط من مادة انعم الله بها العراقيين الى نقمة تمثل مصدر بلاء هذا الوطن الجريح، وتنهار نصب الرئيس الملهم وصوره التي وزعت بالملايين في كل الشوارع والأزقة وترفع بدلاً عنها صور لمراجع لم يكن لهم دور في العراق الحديث سوى مباركة قوات الاحتلال، وتتغير القيم والتقاليد فبدلاً من أن يحمل الجار لجاره صينية الحلوى والغذاء في المناسبات يوشي به لقوات الاحتلال لغاية في قلب موسى ليدفن حياً في معتقلا تهم، وبدلاً من تقوم الشرطة بحماية المواطنين والسهر على أمنهم وراحتهم تتسلل ليلاً ونهاراً كاللصوص الى بيوتهم بصحبة فرق الموت لتسرق وتخطف وتقتل على الهوية، ويتحول الجيش العراقي العظيم حامي الحمى وبطل الجولان والقادسية الثانية عنوان مجد الأمة العربية وتاج الجيوش العربية الى مطية يركبها القادة الأمريكان ويسيرونها لقتل أبناء الوطن في الفلوجة ومدينة الصدر والكاظمية والأعظمية وبقية مدن العراق بلا وازع ولا ضمير. وبدلاً من بناء المعامل واستنهاض همم الشباب وإيجاد فرص عمل لهم تقوم قوات الاحتلال ببناء معتقلات وسجون جديدة تضم من الأبرياء أضعاف المذنبين . وبدلاً من أن يحافظ السياسيون العراقيون على وحدة البلاد وتماسكها يتصارعون على الغنيمة الجريحة ويطالبون بفدرالية قوامها التشتت والتشرذم وسرقة ثروات البلاد. وتحول مجلس النواب العراقي الى حلبة صراع تضم مجموعة من الذئاب المتناحرة تجتمع في نهاية الشهر لتسلم الرواتب المليونية وتغادر الوطن الى البلدان الأصل التي قدموا منها وتركوا فيها أسرهم، همهم الأكبر الحفاظ على مصالحهم ومصالح أحزابهم . وتحمل الحكومة العراقية بيد مشروع مصالحة وطنية مع الآخر، وتضم اليد الثانية خلفها حاملة السكين لتطعن الآخر في ظهره منتهجة التقية السياسية لتنفيذ عملية وأد مشاريع تعلنها نهاراُ وتتنصل منها ليلاً كأنها تتغنى بشعر أبى نواس< كلام الليل يمحوه النهار>، ويطور السياسيون ورجال الدين وقادة الأحزاب كفاءتهم المهنية في ترويج الخطاب التحريضي الطائفي لحصد المزيد من الأرواح، متحولين الى قادة عصابات وميليشيات وفرق موت . ويتحول الوزراء الى لصوص تكنوقراطيين من الطراز الأول يحسدهم علي بابا على فنونهم وألاعيبهم ، وينظر المسؤولون الى معاناة شعبهم من خلال المنظار من سياج المنطقة الخضراء مستعينين بقوات الاحتلال لحمايتهم ممن انتخبوهم من ناخبيهم المساكين.
والاحتلال وما أدراك ما الاحتلال فقد حول البلاد الى ساحة معارك للميليشيات المسلحة وفرق الموت والقوى الإرهابية التي استقطبتها الإدارة الأمريكية كبؤرة لمحاربة الإرهاب الدولي، فبيده يحمل مشعل الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، وما أن تسنح الفرصة إلا واغتنمها لأضرام نار الفتنة بنفس المشعل .
وأين المواطن من كل ذلك وهو يرى العراق على شفير الهاوية إذا لم يكن قد دخلها فعلاً وهو عاجز عن أن يفعل شيئاً، في خضم الصراعات القائمة واحتلال هرم السلطة من قبل مجموعة من المغتربين الذي تجردوا من عراقيتهم وتجنسوا بجنسيات أجنبية، لا تختلف نظرتهم للعراق عن نظرة اللص الى غنيمته، تحول العملاء والخونة و رؤساء العصابات والجواسيس وتجار السوق السوداء ومروجي المخدرات الى قادة أحزاب سياسية ووزراء في زمن الهيمنة الأمريكية، كان العراقي يأمل نفسه بعد انتهاء النظام الدكتاتوري ان يجد متنفساً لآماله وطموحاته المكبوتة ويحولها الى قوى فاعلة في خدمة الوطن، فإذا به يقف مشدوداً اتجاه ما يحدث في الوطن متمنياً عودة الدكتاتورية رغم شراستها وفضاعتها، متذكراً قول السياسي توماس هوبيز بأن " الدكتاتوريات مهما كانت جائرة تظل أفضل من الدخول في أتون الحرب " نغمة أطلقها هوبيز في القرن السابع عشر ليرددها كوفي عنان في الألفية الثالثة .